فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ}.
{لولا} هذه حرف امتناع لوجود.
والفضل في الدنيا يتعين أنه إسقاط عقوبة الحد عنهم بعفو عائشة وصفوان عنهم، وفي الآخرة إسقاط العقاب عنهم بالتوبة.
والخطاب للمؤمنين دون رأس المنافقين.
وهذه الآية تؤيد ما عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد حد القذف أحدًا من العصبة الذين تكلموا في الإفك.
وهو الأصح من الروايات: إما لعفو عائشة وصفوان، وإما لأن كلامهم في الإفك كان تخافتًا وسرارًا ولم يجهروا به ولكنهم أشاعوه في أوساطهم ومجالسهم.
وهذا الذي يشعر به حديث عائشة في الإفك في صحيح البخاري وكيف سمعت الخبر من أم مسطح وقولها: أَوَ قَد تحدث بهذا وبلغ النبي وأبويّ؟.
وقيل: حد حسان ومسطحًا وحمنة، قاله ابن إسحاق وجماعة، وأما عبد الله بن أبيّ فقال فريق: إنه لم يحد حد القذف تأليفًا لقلبه للإيمان.
وعن ابن عباس أن أبيًّا جلد حد القذف أيضًا.
والإفاضة في القول مستعار من إفاضة الماء في الإناء، أي كثرته فيه.
فالمعنى: ما أكثرتم القول فيه والتحدث به بينكم.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)}.
{إذ} ظرف متعلق ب {أفضتم} [النور: 14] والمقصود منه ومن الجملة المضاف هو إليها استحضار صورة حديثهم في الإفك وبتفظيعها.
وأصل {تلقونه} تتلقونه بتاءين حذفت إحداهما.
وأصل التلقي أنه التكلف للقاء الغير، وتقدم في قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات} [البقرة: 37] أي علمها ولقنها، ثم يطلق التلقي على أخذ شيء باليد من يد الغير كما قال الشماخ:
إذا ما راية رُفعت لمجد ** تلقاها عَرابة باليمين

وفي الحديث: «من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبًا تلقاها الرحمن بيمينه» الحديث، وذلك بتشبيه التهيُؤ لأخذ المعطى بالتهيؤ للقاء الغير وذلك هو إطلاقه في قوله: {إذ تلقونه بألسنتكم}.
ففي قوله: {بألسنتكم} تشبيه الخبر بشخص وتشبيه الراوي للخبر بمن يتهيأ ويستعد للقائه استعارة مكنية فجعلت الألسن آلة للتلقي على طريقة تخييلية بتشبيه الألسن في رواية الخبر بالأيدي في تناول الشيء.
وإنما جعلت الألسن آلة للتلقي مع أن تلقي الأخبار بالأسماع لأنه لما كان هذا التلقي غايته التحدث بالخبر جعلت الألسن مكان الأسماع مجازًا بعلاقة الأيلولة.
وفيه تعريض بحرصهم على تلقي هذا الخبر فهم حين يتلقونه يبادرون بالإخبار به بلا ترو ولا تريث.
وهذا تعريض بالتوبيخ أيضًا.
وأما قوله: {وتقولون بأفواهكم} فوجه ذكر {بأفواهكم} مع أن القول لا يكون بغير الأفواه أنه أريد التمهيد لقوله: {ما ليس لكم به علم} أي هو قول غير موافق لما في العلم ولكنه عن مجرد تصور لأن أدلة العلم قائمة بنقيض مدلول هذا القول فصار الكلام مجرد ألفاظ تجري على الأفواه.
وفي هذا من الأدب الأخلاقي أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه ويتحققه وإلا فهو أحد رجلين: أفن الرأي يقول الشيء قبل أن يتبين له الأمر فيوشك أن يقول الكذب فيحسبه الناس كذابًا.
وفي الحديث: ب «حسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع» أو رجل مموه مُراء يقول ما يعتقد خلافه قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام} [البقرة: 204] وقال: {كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 3].
هذا في الخبر وكذلك الشأن في الوعد فلا يعد إلا بما يعلم أنه يستطيع الوفاء به.
وفي الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
وزاد في توبيخهم بقوله: {وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم} أي تحسبون الحديث بالقذف أمرًا هيّنًا.
وإنما حسبوه هيِّنًا لأنهم استخفُّوا الغيبة والطعن في الناس استصحابًا لما كانوا عليه في مدة الجاهلية إذ لم يكن لهم وازع من الدين يرعهم فلذلك هم يحذرون الناس فلا يعتدون عليهم باليد وبالسب خشية منهم فإذا خلوا أمنوا من ذلك.
فهذا سبب حسبانهم الحديث في الإفك شيئًا هينًا وقد جاء الإسلام بإزالة مساوي الجاهلية وإتمام مكارم الأخلاق.
والهيِّن: مشتق من الهوان، وهوان الشيء عدم توقيره واللمبالاة بشأنه، يقال: هان على فلان كذا، أي لم يعد ذلك أمرًا مهمًا، والمعنى: شيئًا هيِّنًا.
وإنما حسبوه هيِّنًا مع أن الحد ثابت قبل نزول الآية بحسب ظاهر ترتيب الآي في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} [النور: 4] الآية لجواز أنه لم تحدث قضية قذف فيما بين نزول تلك الآية ونزول هذه الآية، أو حدثت قضية عويمر العجلاني ولم يعلم بها أصحاب الإفك، أو حسبوه هيِّنًا لغفلتهم عما تقدم من حكم الحد إذ كان العهد به حديثًا.
وفيه من أدب الشريعة أن احترام القوانين الشرعية يجب أن يكون سواء في الغيبة والحضرة والسرِّ والعلانية.
ومعنى: {عند الله} في علم الله مما شرعه لكم من الحكم كما تقدم آنفًا في قوله تعالى: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13].
{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}.
عطف على جملة: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} [النور: 12] إلخ.
وأعيدت {لولا} وشرطها وجوابها لزيادة الاهتمام بالجملة فلذلك لم يعطف {قلتم} الذي في هذه الجملة على {قلتم} الذي في الجملة قبلها لقصد أن يكون صريحًا في عطف الجمل.
وتقديم الظرف وهو {إذ سمعتموه} على عامله وهو {قلتم ما يكون لنا} كتقديم نظيره في قوله: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} [النور: 12] إلخ وهو الاهتمام بمدلول الظرف.
وضمير {سمعتموه} عائد إلى الإفك مثل الضمائر المماثلة له في الآيات السابقة.
واسم الإشارة عائد إلى الإفك بما يشتمل عليه من الاختلاق الذي يتحدث به المنافقون والضعفاء، فالإشارة إلى ما هو حاضر في كل مجلس من مجالس سماع الإفك.
ومعنى {قلتم ما يكون لنا} أن يقولوا للذين أخبروهم بهذا الخبر الآفك.
أي قلتم لهم زجرًا وموعظة.
وضمير {لنا} مراد به القائلون والمخاطبون.
فأما المخاطبون فلأنهم تكلموا به حين حدثوهم بخبر الإفك.
والمعنى: ما يكون لكم أن تتكلموا بهذا، وأما المتكلمون فلتنزههم من أن يجري ذلك البهتان على ألسنتهم.
وإنما قال: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} دون أن يقول: ليس لنا أن نتكلم بهذا، للتنبيه على أن الكلام في هذا وكينونة الخوض فيه حقيق بالانتفاء.
وذلك أن قولك: ما يكون لي أن أفعل، أشد في نفي الفعل عنك من قولك: ليس لي أن أفعل.
ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116].
وهذا مسوق للتوبيخ على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ويقول ذلك لمن يجالسه ويسمعه منه.
فهذا زيادة على التوبيخ على السكوت عليه في قوله تعالى: {وقالوا هذا إفك مبين} [النور: 12].
و{سبحانك} جملة إنشاء وقعت معترضة بين جملة: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} وجملة: {هذا بهتان عظيم}.
و{سبحانك} مصدر وقع بدلًا من فعله، أي نسبح سبحانًا لك.
وإضافته إلى ضمير الخطاب من إضافة المصدر إلى مفعوله، وهو هنا مستعار للتعجب كما تقدم عند قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا} [الإسراء: 1] وقوله: {وسبحان الله وما أنا من المشركين} في سورة يوسف (108).
والأحسن أن يكون هنا لإعلان المتكلم البراءة من شيء بتمثيل حال نفسه بحال من يشهد الله على ما يقول فيبتدىء بخطاب الله بتعظيمه ثم بقول: {هذا بهتان عظيم} تبرّئًا من لازم ذلك وهو مبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه.
وتوجيه الخطاب إلى الله في قوله: {سبحانك} للإشعار بأن الله غاضب على من يخوض في ذلك فعليهم أن يتوجهوا لله بالتوبة منه لمن خاضوا فيه وبالاحتراز من المشاركة فيه لمن لم يخوضوا فيه.
وجملة: {هذا بهتان عظيم} تعليل لجملة: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} فهي داخلة في توبيخ المقول لهم.
ووصف البهتان بأنه {عظيم} معناه أنه عظيم في وقوعه، أي بالغ في كنه البهتان مبلغًا قويًا.
وإنما كان عظيمًا لأنه مشتمل على منكرات كثيرة وهي: الكذب، وكون الكذب يطعن في سلامة العرض، وكونه يسبب إحنًا عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم بدون عذر، وكون المفترى عليهم من خيرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات، وأعظم من ذلك أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضي الله عنها.
والبهتان مصدر مثل الكفران والغفران.
والبهتان: الخبر الكذب الذي يُبهت السامع لأنه لا شبهة فيه.
وقد مضى عند قوله تعالى: {وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا} في سورة النساء (156).
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}.
بعد أن بيّن الله تعالى ما في خبر الإفك من تَبعات لحق بسببها للذين جاءوا به والذين تقبلوه عديدُ التوبيخ والتهديد، وافتضاحٌ للذين روّجوه وخيبةٌ مختلقة بنقيض قصدهم، وانتفاعٌ للمؤمنين بذلك، وبيّن بادىء ذي بدء أنه لا يحسب شرًا لهم بل هو خير لهم، وأن الذين جاءوا به ما اكتسبوا به إلا إثمًا، وما لحق المسلمين به ضر، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم عن سوء نية مختلقيه، وكيف ذهلوا عن ظن الخير بمن لا يعلمون منها إلا خيرًا فلم يفندوا الخبر، وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سببًا للحاق العذاب بهم في الدنيا والآخرة، وكيف حسبوه أمرًا هيّنًا وهو عند الله عظيم، ولو تأملوا لعلموا عظمه عند الله، وسكوتَهم عن تغيير هذا؛ أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله من المجازفة في التلقي، ومن الاندفاع وراء كل ساع دون تثبت في مواطىء الأقدام، ودون تبصر في عواقب الإقدام.
والوعظ: الكلام الذي يطلب به تجنب المخاطب به أمرًا قبيحًا.